لن أصالح يا أمل

يبدأ أمل دنقل ملحمة (لا تصالح) بتساؤل بسيط جدا، ولكنه ضروريّ لتفسير كل ما كان وسيكون..

أتُرَى
حين أفقأ عينيكَ
ثم أثبت جوهرتينِ
مكانهما
هل تَرَى؟؟
هي أشياءُ لا تُشتَرَى

أنا رجلٌ يكره الخيانة، يتقزز منها بمعنى أصح، ولا يغفرها أبدا لمن ارتكبها، كذا خلقني الله كفطرة وطبيعة، وكذا نشأت وتربيت على أنفة وشموخ العظماء، أمثال أمل دنقل وفؤاد حداد، وغيرهما ممن تشرّب كلامهم وجداني قبل أن أستقبل الحياة بكل ما فيها.
وأمل دنقل تحديدا تعلمت منه الكثير، تعلمت منه كشاعر وتعلمت منه كإنسان، ولم يكن يفوق روعة شعره وإحكامه وتماسكه سوى روعة كبريائه وغضبه على الباطل وثورته على المفاهيم المغلوطة وخنوع بني البشر، وهذا الخنوع بالنسبة لي هو غاية ما يصل إليه البشريُّ من انحطاط

إنها الحربُ
قد تًثقِلُ القلبَ
لكنَّ خلفك عار العربْ
لا تصالحْ
ولا تتوخَّ الهرب

عاش أمل رجلا، ومات رجلا، لم يتوخ الهرب أبدا كما حذر، لم يفر من معركةٍ فُرِضت عليه ولم يخترها، لم يول الدبر وهو يعلم أنه يقاتل في سبيل الحق، ولم يغفر لخائنيه أبدا، كما ينبغي.

لا تصالحْ على الدمِ.. حتى بدمْ
لا تصالحْ
ولو قيلَ رأسٌ برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيكَ؟!
أعيناه عينا أخيكَ؟
وهل تتساوى يدٌ سيفها كان لكْ
بيدٍ سيفها أثْكَلَكْ؟!

روح أمل الثائرة على الدوام هي التي جذبتني إليه، تلك الروح التي أحترمها وأحبها وأقدرها كثيرا دائما، والتي لم تتجل في العربية بأفصح ما تجلت به عند المتنبي وأمل دنقل تحديدا، مع الفارق بالطبع، ولكن هذه الروح العنفوانية المتمردة غير القابلة للترويض والاستئناس والتدجين هي من خلقت أمل، ومن خلقت المتنبي من قبله، أما دراسته للغة وعكوفه عليها فهو ما جعل منه (آخر الشعراء الجاهليين) كما قيل ويقال

سيقولون:
جئناك كي تحقن الدمَ
جئناكَ
كن يا أمير الحكَمْ
سيقولون:
ها نحن أبناء عمْ
قل لهم:
إنهم لم يراعوا العمومةَ
فيمن هلَكْ
واغرس السيفَ
في جبهة الصحراءِ
إلى أن يجيب العدَمْ

استخدام أمل للتراث العربي واستجلابه وإسقاطه على الحاضر بصورة ملحمية في العديد من قصائده مثل (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) و(حديث خاص مع أبي موسى الأشعري) و(مقابلة خاصة مع ابن نوح) والقصيدة التي نحن بصددها الآن بالطبع وغير ذلك لم يأت من فراغ، ولكن لأنه أحب هذا التراث، كما أحب هذه اللغة، كما أحب هذا الوطن، وصدمه ما يحدث فيه من مهازل.

لا تصالحْ
ولو توَّجوكَ بتاج الإمارةْ
كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ؟
وكيف تصير المليكَ
على أوجهِ البهجة المستعارةْ؟
كيف تنظر في يدِ من صافحوكَ
فلا تبصرُ الدمَ
في كل كفْ؟!
إن سهمًا أتاني من الخلفِ
سوف يجيئكَ من ألف خلفْ
فالدمُ الآنَ صار وسامًا وشارةْ

التاريخ يعيد نفسه، والبشر لا يتعلمون، حقيقتان لا شك فيهما، ولهذا عاد أمل إلى الماضي ليتحدث عن الحاضر، عاد إلى سكان الصحارى ليتحدث عن ساكني المدن، فالإنسان واحدٌ في كل الحالات، والخير والشر لعنة أبدية مصاحبة لحرية الاختيار، وميزان مقدس لا ينتهي إلا بانتهاء السماوات والأرض ومن فيهما، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام

عندما يملأ الحق قلبكَ
تندلع النارُ إن تتنفَّسْ
ولسانُ الخيانة يخرسْ
لا تصالحْ
ولو قيل ما قيل من كلمات السلامْ
كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنَّسْ؟!

الخيانة لا تختلف في المدن عن القرى، ولا في الجبال عن السواحل، الخيانة دائما هي الخيانة، منذ أن قتل قابيل هابيل حسدا من عند نفسه، ومنذ أن قطّع ست جسد أخيه أوزوريس وبعثره في المدائن ولم يحظ بإيزيس في النهاية، الخيانة واحدة دائما أبدا لا تتغير، يغذي نيرانها شياطين الإنس والجن، ولا يُقبل فيها تسامحٌ أبدا

لا تصالحْ
ولا تقتسم مع من قتلوك الطعامْ
وارْوِ قلبك بالدمِ
واروِ التراب المقدَّسْ
واروِ أسلافَكَ الراقدينَ
إلى أن تردَّ عليك العظامْ

في المقال النقدي الوحيد الذي نشر عن ديواني قبل الأخير، أسعدني كثيرا استخدام كاتبته لمقارنة بسيطة بين جيل محمد قرنه وجيل أمل دنقل في جملة عابرة في المقال، أسعدني أن يقترن اسمي باسم هذا الجبل الشعريّ الكبير، وأن تكون قصائدي مدعاة لاستحضار قصائد هذا الغائب الحاضر، فما نحن إلا أبناء العربية في النهاية، نتعلم منها الأنفة والعزة والشموخ، والانبهار والتواضع حينما يتحدث إلينا الخالق جل وعلا (بلسانٍ عربيٍّ مبين)

لا تصالحْ
ولو ناشدتكَ القبيلةْ
باسم حزن “الجليلةْ”
أن تسوق الدهاءَ
وتُبدي لمن قصدوك القبولْ
سيقولونَ:
ها أنت تطلب ثأرًا يطولْ!
فخذ الآن ما تستطيعُ
قليلاً من الحقِّ
في هذه السنوات القليلةْ
إنه ليس ثأرك وحدكَ
لكنه ثأر جيلٍ فجيلْ
وغدًا
سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً
يوقد النار شاملةً
يطلب الثأرَ
يستولد الحقَّ
من أَضْلُع المستحيلْ

تحدث أمل عن غد لم يره، ولكنني أتحدث عن غد سأراه بإذن الله، أتحدث عن قادم لا محالة، وعن آتٍ لا ريب

لا تصالحْ ولو حذَّرتْك النجومْ
ورمى لك كهَّانُها بالنبأْ
كنت أغفر لو أنني متُّ
ما بين خيط الصواب وخيط الخطأْ
لم أكن غازيًا
لم أكن أتسلل قرب مضاربهم
لم أمد يدًا لثمار الكرومْ
أرض بستانِهم لم أطأْ
لم يصح قاتلي بي: “انتبه”

كنت أجلس منذ أيام عند عالم جليل، كنت أشعر بالضآلة أمامه وهو الذي يبلغ ضعفي من العمر وأضعافي من العلم والتجارب، ثم يقول (لا فارق بيني وبينك غير أنني جئت قبلك إلى الحياة)، كنت حريصا جدا على ألا يصدر مني شيءٌ يزعجه طوال الوقت، فقط عندما حكى لي عن ذكرياته مع صلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي وأمل دنقل وهو يستعيد لذة ما فات، ثم يعقب حكاياته وهو يقول بابتسامة كبيرة (والشعراء المجانين دول كلهم)، فقط عندها وجدتني أقول ضاحكا بتلقائية شديدة (أنا أجنّهم بقى)، قبل أن أتنبّه إلى ما في العبارة من غرور وصلف لا يليق، ولكن الشيء الذي لاحظته أنه لم يظهر على وجهه أي استياء من هذه الجملة، رغم أنه لا يعرف عني سوى اسمي فقط، ولم يقرأ لي حرفا من قبل، فقط تابع كلامه كأن لم أقل شيئا

لا تصالحْ
إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرةْ
النجوم لميقاتها
والطيور لأصواتها
والرمال لذراتها
والقتيل لطفلته الناظرةْ
كل شيءٍ تحطّم في لحظة عابرةْ
كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرةْ
والذي اغتالني ليس ربًا
ليقتلني بمشيئته

(القدرة أم المشيئة؟)، سألتُ إحدى الصديقات منذ أيام، وأخالها توجست من السؤال وارتبكت وحاولت استيضاحي أكثر دون أن تمنحني ردا (كالعادة)، وعندما يئست منها (كالعادة أيضا) أجبتها أنا قائلا: (التمر حنة طبعا، ولسه حنشوف التمر حنة اللي على حق ربنا)

لا تصالحْ
فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينِ
في شرف القلبِ
لا تُنتقَصْ
والذي اغتالني مَحضُ لصْ

أعدك يا أمل أنني لن أصالح، أعدك أنني لن أتخلى عما هو لي، ولن أسامح في خيانةٍ أبدا، أعدك أنني لن أتغير، ولن أكون سواي لأي سبب كان، أعدك أنني سأنصر الحق ما رأيته، وسأدحض الباطل ما استطعت إلى ذلك سبيلا، أعدك أن أكون نصيرا للمظلومين، وجبارا على الجبارين، ومشيئة الله فوق مشيئة الجميع، وأعدك أنني سأنتصر
هذا وعد مني

لا تصالحْ
ولو وقفت ضد سيفك كلُّ الشيوخْ
والرجال التي ملأتها الشروخْ
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم
فوق أعينهم
وسيوفهم العربية
قد نسيتْ سنوات الشموخْ
لا تصالحْ
فليس سوى أن تريدْ
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيدْ

وسواك.. المسوخْ

تعليقات

المشاركات الشائعة