الشعراء .. سكربس .. ما بعد الحداثة
الخلاصة من دا إن إعادة ترتيب الصور بشكل غير قابل للحدوث في الواقع المرئي وتعويد المشاهد على تقبل وتلقي هذه النوعية من الصور المجمعة بطريقة مخالفة للمعتاد دا لازم يكون له تأثير على طريقة تفاعل المتلقي مع الموجودات في الواقع .. بل إنه حيأثر حتى على طريقة تلقيه للصور الحياتية وطريقة تعامله معاها بناء على خبرة مسبقة مكتسبة ولكن مستحيلة الحدوث في الواقع
يعني إيه الكلام اللي فات دا .. يعني بأبسط صوره التحذيرات اللي كانت بتنزل مع أفلام سوبرمان زمان للأطفال إن الأحداث دي خيالية ومتحاولوش تقلدوا البطل أبدا ، أو حتى التحذيرات اللي بتنزل دلوقتي للكبار مع إعلانات العربية اللي بتعوم !! ودي صورة عبيطة للتأثيرات اللي بأتكلم عنها .. واللي مأملكش آليات بحث مناسبة عشان أحددها .. بس هي أكيدة وبديهية الحدوث
والشاعر مش كائن هلامي بينبت بعيدا عن التأثيرات دي .. بالعكس .. الشاعر كائن وظيفته الإبداع .. تشكيل اللغة في قوالب جديدة وإطلاق الإحساس في ساحات أرحب ، وهو فرد من المجتمع بيتأثر بكل اللي بيأثر في المجتمع وعادة بدرجات أعلى .. وأعتقد إن إعادة ترتيب الصور في القصيدة العربية على شكل لقطات أو لمحات من المشهد الكلي كمعادل لعملية المنتجة بعد ظهور التليفزيون هو مبحث مهم للغاية .. أيضا الانتقال بالقارئ إلى مجموعة من الصور المتجاورة بلا رابط معين إلى أن يجئ الرابط في النهاية وفي الأغلب يستعصي على أغلب القراء هو ملمح مهم من ملامح شعر الحداثة يربطه بثقافة الصورة المرئية بعد إعادة عملية تركيبها وتقطيعها شاء أم أبى
قطعنا رحلة المعنى .. ولم نسكرْ بخمر اللفظْ
إذن لابد من فرحٍ .. ولو طال الزمان الفظْ
أحمد بخيت
دائما التهمة جاهزة التوجيه للشعر الموزون هي الاهتمام بالصناعة اللفظية وطرق تركيب الجملة على المعنى ، أو حشر عدد من الضمائر وأدوات الإشارة والحروف الزائدة عن المعنى لضبط الدفة الإيقاعية للكلام ، وللأمانة فالتهمة لا تخلو من جزء كبير من الصحة ولكن تخلو من الموضوعية ، نعم الإيقاع اللفظي هو مارد يجذب الأذن ويرغمها في بعض الأحيان على إضافة بعض المعادلات النغمية الزائدة عن المعنى ليستقيم الوزن ، ولكن هذا يحدث في حالات الضعف الفكري أو الاستسهال عند الممارسة ، كما أنني أعتقد أن الأسلوب الخاص لفحول الشعراء وما يميزهم وهو قدرتهم على التغلب على هذه المشكلة ، بحيث يخرج منهم الكلام منثالا كأنه حديث عاديّ ولكن في نفس الوقت موزونا وله رتم إيقاعيّ ملحوظ ، وهذا هو المميز والمنبه لقوة الشاعر وموهبته من أيام عنترة العبسيّ مرورا بالمتنبي ووصولا لنزار وأمل ودرويش وبخيت
فعنترة حين يقول
هل غادر الشعراء من متردّمِ ..
تشعر كأنه رجل يحادثك بأبسط وأقصر طرق المحادثة الحاملة للمعنى بلا حشر أى أدوات لضبط الإيقاع .. الكلام يخرج منه موزونا
والمتنبي عندما يقول
تولوا بغتةً فكأن بينا .. تهيبني ففاجأني اغتيالا
كأن العيس كانت فوق جفني .. مناخاتٍ فلما ثرنَ سالا
بدت قمرا .. ومالت خوط بانٍ .. وفاحت عنبرا .. ورنت غزالا
وجارت في الحكومة ثم أبدت .. لنا من حسن قامتها اعتدالا
المتنبي هنا لا يخاطب أحدا .. هو يسترسل في رسم صورة لحبيبته عند الغياب المفاجئ الذي تهيب أن يلاقيه رجلا لرجل ففاجئه اغتيالا .. وكأن جمال الحبيبة كانت تستريح فوق جفون المتنبي وتمنعه من البكاء .. ثم ينتقل إلى تشبيه الحبيبة وكل تشبيه في كلمتين .. تشبيه بليغ لتأكيد الصفة المشبه بها .. تلك الحبيبة التي جارت في حكمها عليه واعتدلت في مشيتها كنوع من التعويض .. وهو في رسمه الصورة أعلى لم يستخدم حرفا واحدا بسبب الإيقاع ، ولم يستخدم حرفا واحدا أيضا لا يخدم الصورة
ونزار عندما يقول
مايا تغني
وهي تحت الدوش
أغنيةً من اليونان رائعةً
وتصرخ دونما سبب
وتضحك دونما سبب
ويدخل نهدها الذهبيّ في لحم المرايا
مايا تقول بأنني الرجل الوحيد
وأنها ماضاجعت رجلا سوايا
وأنا أصدق
كل ما قال النبيذ
وربع ما قالته مايا
نجد أن الجزء المضاف هنا من أجل الوزن هو الباء في بأنني
فأصل الجملة مايا تقول أنني
وأنا شخصيا تدخل الباء كزائدة كثيرا في أشعاري وفي أشعار نزار أيضا وإن كنت أحاول الابتعاد عن هذه الضرورة ما أستطيع
وأمل يقول
إطار سيارته ملوث بالدمْ
سار ولم يهتمْ
كنت أنا المشاهد الوحيدْ
لكنني فرشت فوق الجسد الملقى جريدتي اليوميةْ
وحين أقبل الرجال من بعيدْ
مزقت هذا الرقم المكتوب في وريقةٍ مطويةْ
وسرتُ عنهم .. ما فتحت الفمْ
أيضا أمل هنا يصف صورة حقيقية أو ممكنة الحدوث في الواقع ورد فعله تجاهها في أقل كلمات ممكنة وبتكثيف وحرفية عاليه من خلالهما استطاعت القافية الكثيرة أن تأتي في النمط أعلى بلا حشر زائد وإنما في انسياق طبيعي منثال بلا أى كلمات زائدة
ويقول أيضا في قصيدة من أجمل ما قرأت في تاريخ العربية
من دفتر أبي نواس
ملكٌ أم كتابةْ
صاح بي صاحبي وهو يلقي بدرهمه في الهواءْ
ويعود ويلقفهُ
خارجين من الدرس كنا
وحبر الطفولة فوق الرداءْ
والعصافير تمرق عبر البيوت
وتهبط فوق النخيل البعيدْ
ملكٌ أم كتابةْ
صاح بي
فانتبهتُ
ورفت ذبابةْ
فوق عينين لامعتين
فقلت الكتابةْ
فتح اليد مبتسما كان وجه المليك السعيدْ
باسما في مهابة
ملكٌ أم كتابةْ
صحتُ فيه بدوري
فرفرف في مقلتيه الصبا والنجابةْ
وأجاب الملكْ
دون أن يتعلثم أو يرتبكْ
وفتحت يدي كان نقش الكتابةْ
بارزا في صلابةْ
دارتِ الأرضُ دورتها
حملتنا الشواديفُ من هدأة النهر
ألقت بنا في جداول أهل الغرابةْ
نتفرق بين حقول الأسى وحقول الصبابةْ
قطرتينِ التقينا على سلّم القصر ذات مساء وحيدْ
كنت فيه نديم الرشيدْ
بينما صاحبي يتولى الحجابةْ
وأمل في المثالين السابقين يتبع تقنية الحكى المكثف .. وليس السرد بما يتضمنه من تداع للمشاهد والأفكار والخيالات ، وإنما تقنية رسم المشهد عند أمل هي أقرب ما تكون لتقنية عرض المشهد السينمائي
في المثال الأول .. تظهر اللقطة الأولى لإطار سيارة صاحبها مجهول والإطار ملوث بالدم ويتحرك .. في اللقطة الثانية أمل هو المشاهد الوحيد وهو يغطي الجسد المقتول بجريدته اليومية .. اللقطة الثالثة الرجال يقبلون ويتجمعون حول الحادثة .. اللقطة الأخير ورقة تتمزق وأمل يغادر الساحة
ولن ننتقل إلى الساحة البلاغية لنصف عبقرية الانتقال من صورة الإطار إلى الشخص المجهول الذي تمت الإشارة إليه وإن لم يعرفه أيضا .. ثم إلى الانتقال إلى صورة ثالثة وهي منظور المشاهد واستخدام أنا للمرة الأولى مع جمال الاستدراك في لكنني .. والذي سيعرف القارئ سببه في نهاية المقطع وهو سلبية المشاهد .. مع رد الفعل الطبيعي للحادثة وهو التجمهر ، وحين يبدأ التجمهر نفاجأ للمرة الأولى أن هناك ورقة مطوية بها رقم السيارة .. وأنها تمزق .. وأن صاحبها يغادر الكادر
وفي المثال الثاني .. طفلان يلهوان بعد الخروج من الدرس بلعب الرفه .. يسرح أحدهما قليلا في تأمل المشهد بعد الخروج من الدرس / السجن من الطيور والنخيل .. فينبهه الآخر لاستكمال اللعب .. وترف ذبابة ما تزيد من إعادته من الخيال للواقع ليجيب الكتابة في حين مازالت عينه تلمع في عالم الحلم .. ولكن كان الاصطدام بالملك السعيد المهيب .. وحين يجئ دور الطفل الذي أجاب الكتابة / أبي نواس ليلقي العملة .. يجيبه صاحبه بثقة واعتداد الملك .. ولكن كان لابد من الاصطدام بالكتابة
وتفرق الصديقان زمنا إلى أن تجمعا على سلم القصر ، كان أبو نواس هو نديم الرشيد .. وكان صديقه كبير الحرس
وأيضا مبادئ الإخراج السينمائي واضحة للغاية في هذا المثال
ومحمود درويش يقول في قصيدة من ديوان كزهر اللوز أو أبعد برغم الخطأ النحوي القاتل في مطلعها والذي سأضعه بين قوسين
لم (تأتِ) .. قلتُ
ولن
إذن
سأعيد ترتيب المساء بما يليق بخيبتي
وغيابها
أطفأت نار شموعها
أشعلت نور الكهرباء
شربت كأس نبيذها وكسرتهُ،
أبدلتُ موسيقى الكمنجات السريعةِ
بالأغاني الفارسيةِ
قلت: لن تأتي.. سأنضو ربطةَ العنق الأنيقةِ
[هكذا أرتاح أكثر]
درويش هنا وفي بقية القصيدة يتبع أيضا أساسيات الإخراج السينمائي لحركة المشهد
ولكن نجده حين يقول مثلا
أعطنا يا حب فيضك كله
لنخوض حرب العاطفييّن الشريفة
فالمناخ ملائمٌ
والشمس تشحذ في الصباح سلاحنا،
يا حبّ
لا هدفٌ لنا إلا الهزيمة في حروبكَ
فانتصر أنت انتصر
واسمع مديحك من ضحاياكَ: انتصر!
سَلِمت يداك!
وعد إلينا خاسرين... وسالماً!
يستخدم درويش في هذا المقطع تقنية السرد بما يحمله من إيغال في اللحظة الشعورية وتداع حر للكلمات والمشاعر بلا تحديد دقيق أو مباشر من العقل الواعي مثل ما نشاهده في تقنية الحكى على الأسلوب السينمائي في تقطيع الصور الموصلة والمكونة للمشهد
ويقول بخيت
خذي المنديل يا أختاهُ فالقصّاص خانَ القصْ
وليس النقصُ في الرمزيّ .. في شرح الرموز النقصْ
يهوذا لم يكن حشواً .. ولكنّ المسيح النصْ
وهو ما سيأخذنا إلى بعض ممارسات شعر الحداثة وما بعدها
تعليقات